فصل: ذكر استيلاء بختيار على الموصل وما كان من ذلك:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر قتل محمد بن الحسين الزناتّي:

في هذه السنة قتل يوسف بلكين بن زيري محمد بن الحسين بن خزر الزناتي وجماعةً من أهله وبني عمه، وكان قد عصى على المعز لدين الله بإفريقية، وكثر جمعه من زناتة والبربر، فأهم المعز أمره لأنه أراد الخروج إلى مصر، فخاف أن يخلف محمداً في البلاد عاصياً، وكان جباراً عاتياً طاغياً.
وأما كيفية قتله فإنه كان يشرب هو وجماعة من أهله وأصحابه، فعلم يوسف به، فسار إليه جريدة متخفياً، فلم يشعر به محمد حتى دخل عليه، فلما رآه محمد قتل نفسه بسيفه، وقتل يوسف الباقين وأسر منهم، فحل ذلك عند المعز محلاً عظيماً، وقعد للهناء به ثلاثة أيام.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة قبض عضد الدولة على كوركير بن جستان قبضاً فيه إبقاء وموضع للصلح.
وفيها تزوج أبو تغلب بن حمدان ابنة عز الدولة بختيار، وعمرها ثلاث سنين، على صداق مائة ألف دينار؛ وكان الوكيل في قبول العقد أبا الحسن علي بن عمرو بن ميمون صاحب أبي تغلب بن حمدان، ووقع العقد في صفر.
وفيها قتل رجلان بمسجد دير مار ميخائيل بظاهر الموصل، فصادر أبو تغلب جماعة من النصارى.
وفيها استوزر مؤيد الدولة بن ركن الدولة الصاحب أبا القاسم بن عباد، وأصلح أموره كلها.
وفيها مات أبو القاسم سليمان بن أيوب الطبراني صاحب المعاجم الثلاثة بأصبهان وكان عمره مائة سنة، وأبو بكر محمد بن الحسين الآجري بمكة، وهما من حفاظ المحدثين.
وفيها توفي السري بن أحمد بن السري أبو الحسن الكندي الرفا، الشاعر الموصلي، ببغداد. ثم دخلت:

.سنة إحدى وستين وثلاثمائة:

.ذكر ما فعله الروم بالجزيرة:

في هذه السنة، في المحرم، أغار ملك الروم على الرها ونواحيها، وسار في ديار الجزيرة حتى بلغوا نصيبين، فغنموا، وسبوا، وأحرقوا وخربوا البلاد، وفعلوا مثل ذلك بديار بكر، ولم يكن من أبي تغلب بن حمدان في ذلك حركة، ولا سعي في دفعه، لكنه حمل إليه مالاً كفه به عن نفسه.
فسار جماعة من أهل تلك البلاد إلى بغداد مستنفرين، وقاموا في الجوامع والمشاهد، واستنفروا المسلمين، وذكروا ما فعله الروم من النهب، والقتل، والأسر، والسبي، فاستعظمه الناس، وخوفهم أهل الجزيرة من انفتاح الطريق وطمع الروم، وأنهم لا مانع لهم عندهم، فاجتمع معهم أهل بغداد، وقصدوا دار الخليفة الطائع لله، وأرادوا الهجوم عليه، فمنعوا من ذلك، وأغلقت الأبواب، فأسمعوا ما يقبح ذكره.
وكان بختيار حينئذ يتصيد بنواحي الكوفة، فخرج إليه وجوه أهل بغداد مستغيثين، منكرين عليه اشتغاله بالصيد، وقتال عمران بن شاهين وهو مسلم، وترك جهاد الروم، ومنعهم عن بلاد الإسلام حتى توغلوها، فوعدهم التجهز للغزاة، وأرسل إلى الحاجب سبكتكين يأمره بالتجهز للغزو وأن يستنفر العامة، ففعل سبكتكين ذلك، فاجتمع من العامة عدد كثير لا يحصون كثرة، وكتب بختيار إلى أبي تغلب بن حمدان، صاحب الموصل، يأمره بإعداد الميرة والعلوفات، ويعرفه عزمه على الغزاة، فأجابه بإظهار الفرح، وإعداد ما طلب منه.

.ذكر الفتنة ببغداد:

في هذه السنة وقعت ببغداد فتنة عظيمة، وأظهروا العصبية الزائدة، وتحزب الناس، وظهر العيارون وأظهروا الفساد، وأخذوا أموال الناس.
وكان سبب ذلك ما ذكرناه من استنفار العامة للغزاة، فاجتمعوا وكثروا فتولد بينهم من أصناف البنوية، والفتيان، والسنة، والشيعة، والعيارين، فنهبت الأموال، وقتل الرجال، وأحرقت الدور، وفي جملة ما احترق محلة الكرخ، وكانت معدن التجار والشيعة، وجرى بسبب ذلك فتنة بين النقيب أبي أحمد الموسوي والوزير أبي الفضل الشيرازي وعداوة.
ثم إن بختيار أنفذ إلى المطيع لله يطلب منه مالاً يخرجه في الغزاة، فقال المطيع: إن الغزاة والنفقة عليها، وغيرها من مصالح المسلمين، تلزمني إذا كانت الدنيا في يدي وتجبي إلي الأموال، وأما إذا كانت حالي هذه فلا يلزمني شيء من ذلك، وإنما يلزم من البلاد في يده، وليس لي إلا الخطبة، فإن شئتم أن أعتزل فعلت.
وترددت الرسائل بينهما، حتى بلغوا إلى التهديد، فبذل المطيع لله أربعمائة ألف درهم، فاحتاج إلى بيع ثيابه، وأنقاض داره، وغير ذلك، وشاع بين الناس من العراقيين وحجاج خراسان وغيرهم أن الخليفة قد صودر. فلما قبض بختيار المال صرفه في مصالحه، وبطل حديث الغزاة.

.ذكر مسير المعز لدين الله العلوي من الغرب إلى مصر:

في هذه السنة سار المعز لدين الله العلوي من إفريقية يريد الديار المصرية، وكان أول مسيره أواخر شوال من سنة إحدى وستين وثلاثمائة، وكان أول رحيله من المنصورية، فأقام بسردانية، وهي قرية قريبة من القيروان، ولحقه بها رجاله، وعماله، وأهل بيته، وجميع ما كان له في قصره من أموال وأمتعة وغير ذلك، حتى إن الدنانير سبكت وجعلت كهيئة الطواحين وحمل كل طاحونتين على جمل.
وسار عنها واستعمل على بلاد إفريقية يوسف بلكين بن زيري بن مناد الصنهاجي الحميري، إلا أنه لم يجعل له حكماً على جزيرة صقلية، ولا على مدينة طرابلس الغرب، ولا على أجدابية، وسرت، وجعل على صقلية حسن بن علي بن أبي الحسين، على ما قدمنا ذكره، وجعل على طرابلس عبدالله بن يخلف الكتامي، وكان أثيراً عنده، وجعل على جباية أموال إفريقية زيادة الله بن القديم، وعلى الخراج عبد الجبار الخراساني، وحسين بن خلف الموصدي، وأمرهم بالانقياد ليوسف بن زيري.
فأقام بسردانية أربعة أشهر حتى فرغ من جميع ما يريد، ثم رحل عنها، ومعه يوسف بلكين وهو يوصيه بما يفعله، ونحن نذكر من سلف يوسف بلكين وأهله ما تمس الحاجة إليه، ورد يوسف إلى أعماله، وسار إلى طرابلس ومعه جيوشه وحواشيه، فهرب منه بها جمع من عسكره إلى جبال نفوسة فطلبهم فلم يقدر عليهم.
ثم سار إلى مصر، فلما وصل إلى برقة ومعه محمد بن هانئ الشاعر الأندلسي، قتل غيلة، فرؤي ملقىً على جانب البحر قتيلاً لا يدرى من قتله، وكان قتله أواخر رجب من سنة اثنتين وستين وثلاثمائة، وكان من الشعراء المجيدين إلا أنه غالى في مدح المعز حتى كفره العلماء، فمن ذلك قوله:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار ** فاحكم فأنت الواحد القهّار

وقوله:
ولطال ما ** زاحمت حول ركابه جبريلا

ومن ذلك ينسب إليه ولم أجدها في ديوانه قوله:
حلّ برقّادة المسيح ** حلّ بها آدمٌ ونوح

حلّ بها الله ذو المعالي ** فكلّ شيء سواه ريح

ورقادة اسم مدينة بالقرب من القيروان، إلى غير ذلك، وقد تأوّل ذلك من يتعصّب له، والله أعلم، وبالجملة فقد جاز حد المديح.
ثم سار المعز حتى وصل إلى الإسكندرية أواخر شعبان من السنة، وأتاه أهل مصر وأعيانها، فلقيهم، وأكرمهم، وأحسن إليهم، وسار فدخل القاهرة خامس شهر رمضان سنة اثنتين وستين وثلاثمائة، وأنزل عساكره مصر والقاهرة في الديار، وبقي كثير منهم في الخيام.
وأما يوسف بلكين فإنه لما عاد من وداع المعز أقام بالمنصورية يعقد الولايات للعمال على البلاد، ثم سار في البلاد، وباشر الأعمال، وطيب قلوب الناس، فوثب أهل باغاية على عامله فقاتلوه فهزموه، فسير إليهم يوسف جيشاً فقاتلهم فلم يقدر عليهم، فأرسل إلى يوسف يعرفه الحال، فتأهب يوسف، وجمع العساكر ليسير إليهم، فبينما هو في التجهز أتاه الخبر عن تاهرت أن أهلها قد عصوا، وخالفوا، وأخرجوا عامله، فرحل إلى تاهرت فقاتلها، فظفر بأهلها، وخرها، فأتاه الخبر بها أن زناتة قد نزلوا على تلمسان، فرحل إليهم، فهربوا منه، وأقام على تلمسان فحصرها مدة ثم نزلوا على حكمه فعفا عنهم، إلا أنه نقلهم إلى مدينة أشير، فبنوا عندها مدينة سموها تلمسان.
ثم إن زيادة الله بن القديم جرى بينه وبين عامل آخر كان معه، اسمه عبد الله بن محمد الكاتب، منافسة صارت إلى محاربة، واجتمع مع كل واحد منهما جماعة، وكان بينهما حروب عدة دفعات، وكان يوسف بلكين مائلاً مع عبدالله لصحبة قديمة بينهما، ثم إن أبا عبدالله قبض على ابن القديم وسجنه واستبد بالأمور بعده، وبقي ابن القديم محبوساً حتى توفي المعز بمصر، وقوي أمر يوسف بلكين.
وفي سنة أربع وستين طلع خلف بن حسين إلى قلعة منيعة، فاجتمع إليه خلق كثير من البربر وغيرهم، وكان من أصحاب ابن القديم المساعدين له، فسمع يوسف بذلك، فسار إليه ونازل القلعة وحاربه، فقتل بينهما عدة قتلى، وافتتحها، وهرب خلف بن حين، وقتل ممن كان بها خلق كثير، وبعث إلى القيروان من رؤوسهم سبعة آلاف رأس، ثم أخذ خلف وأمر به فطيف به على جمل، ثم صلب، وسير رأسه إلى مصر، فلما سمع أهل باغاية بذلك خافوا، فصالحوا يوسف ونزلوا على حكمه، فأخرجهم من باغاية وخرب سورها.

.ذكر خبر يوسف بلكين بن زيري بن مناد وأهل بيته:

هو يوسف بلكين بن زيري بن مناد الصنهاجي الحميري، اجتمعت صنهاجة ومن والاها بالمغرب على طاعته، قبل أن يقدمه المنصور، وكان أبوه مناد كبيراً في قومه، كثير المال والولد، حسن الضيافة لمن يمر به، ويقدم ابنه زيري في أيامه، وقاد كثيراً من صنهاجة، وأغار بهم، وسبى، فحسدته زناتة، وجمعت له لتسير إليه وتحاربه، فسار إليهم مجداً، فكبسهم ليلاً وهم غارون بأرض مغيلة، فقتل منهم كثيراً، وغنم ما معهم، فكثر تبعه، فضاقت بهم أرضهم، فقالوا له: لو اتخذت لنا بلداً غير هذا؛ فسار بهم إلى موضع مدينة أشير، فرأى ما فيه من العيون، فاستحسنه، وبنى فيه مدينة أشير، وسكنها هو وأصحابه، وكان ذلك سنة أربع وستين وثلاثمائة.
وكانت زناتة تفسد في البلاد، فإذا طلبوا احتموا بالجبال والبراري، فلما بنيت أشير صارت صنهاجة بين البلاد وبين زناتة والبربر، فسر بذلك القائم.
وسمع زيري بغمارة وفسادهم، واستحلالهم المحرمات، وأنهم قد ظهر فيهم نبي، فسار إليهم، وغزاهم، وظفر بهم، وأخذ الذي كان يدعي النبوة أسيراً، وأحضر الفقهاء فقتله.
ثم كان له أثر حسن في حادثة أبي يزيد الخارجي، وحمل الميرة إلى القائم بالمهدية، فحسن موقعها منه.
ثم إن زناتة حصرت مدينة أشير، فجمع لهم زيري جموعاً كثيرة، وجرى بينهم عدة وقعات قتل فيها كثير من الفريقين، ثم ظفر بهم واستباحهم.
ثم ظهر بجبل أوراس رجل، وخالف على المنصور، وكثر جمعه، يقال له سعيد بن يوسف، فسير إليه زيري ولده بلكين في جيش كثيف، فلقيه عند باغاية، واقتتلوا، فقتل الخارجي ومن معه من هوارة وغيرهم، فزاد محله عند المنصور، وكان له في فتح مدينة فاس أثر عظيم، على ما ذكرناه.
ثم إن بلكين بن زيري قصد محمد بن الحسين بن خزر الزناتي، وقد خرج عن طاعة المعز، وكثر جمعه، وعظم شأنه، فظفر به يوسف بلكين، وأكثر القتل في أصحابه، فسر المعز بذلك سروراً عظيماً لأنه كان يريد أن يستخلف يوسف بلكين على الغرب لقوته، وكثرة أتباعه، وكان يخاف أن يتغلب على البلاد بعد مسيره عنها إلى مصر. فلما استحكمت الوحشة بينه وبين زناتة أمن تغلبه على البلاد.
ثم إن جعفر بن علي، صاحب مدينة مسيلة وأعمال الزاب، كان بينه وبين زيري محاسدة، فلما كثر تقدم زيري عند المعز ساء ذلك جعفراً، ففارق بلاده ولحق بزناتة فقبلوه قبولاً عظيماً، وملكوه عليهم عداوةً لزيري، وعصى على المعز، فسار زيري إليه في جمع كثير من صنهاجة وغيرهم فالتقوا في شهر رمضان، واشتد القتال بينهم، فكبا بزيري فرسه فوقع فقتل، ورأى جعفر من زناتة تغيرً عن طاعته، وندماً على قتل زيري، فقال لهم: إن ابنه يوسف بلكين لا يترك ثأر أبيه، ولا يرضى بمن قتل منكم، والرأي أن نتحصن بالجبال المنيعة، والأوعار؛ فأجابوه إلى ذلك، فحمل ماله وأهله في المراكب، وبقي هو مع الزناتيين، وأمر عبيده في المراكب أن يعملوا في المراكب فتنة، فعلوا وهو يشاهدهم من البر، فقال لزناتة: أريد أن أنظر ما سبب هذا الشر؛ فصعد المركب، ونجا معهم، وسار إلى الأندلس إلى الحاكم الأموي، فأكرمه، وأحسن إليه، وندمت زناتة كيف لم يقتلوه ويغنموا ما معه.

.ذكر الصلح بين الأمير منصور بن نوح وبين ركن الدولة وعضد الدولة:

في هذه السنة تم الصلح بين الأمير منصور بن نوح الساماني، صاحب خراسان وما وراء النهر، وبين ركن الدولة وابنه عضد الدولة، على أن يحمل ركن الدولة وعضد الدولة إليه كل سنة مائة ألف وخمسين ألف دينار، وتزوج نوح بابنة عضد الدولة، وحمل إليه من الهدايا والتحف ما لم يحمل مثله، وكتب بينهم كتاب صلح، وشهد فيه أعيان خراسان، وفارس، والعراق.
وكان الذي سعى في هذا الصلح وقرره محمد بن إبراهيم بن سيمجور، صاحب جيوش خراسان من جهة الأمير منصور.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة، في صفر، انقض كوكب عظيم، وله نور كثير، وسمع له عند انقضاضه صوت كالرعد، وبقي ضوءه.
وفي شوال منها ملك أبو تغلب بن حمدان قلعة ماردين، سلمها إليه نائب أخيه حمدان، فأخذ أبو تغلب كل ما كان لأخيه فيها من أهل ومال وأثاث وسلاح، وحمل الجميع إلى الموصل. ثم دخلت:

.سنة اثنتين وستين وثلاثمائة:

.ذكر انهزام الروم وأسر الدمستق:

في هذه السنة كانت وقعة بين هبة الله بن ناصر الدولة بن حمدان وبين الدمستق بناحية ميافارقين.
وكان سببها ما ذكرناه من غزو الدمستق بلاد الإسلام، ونهبه ديار ربيعة وديار بكر، فلما رأى الدمستق أنه لا مانع له عن مراده قوي طمعه على أخذ آمد، فسار إليها وبها هزارمرد غلام أبي الهيجاء بن حمدان، فكتب إلى أبي تغلب يستصرخه ويستنجده، ويعلمه الحال، فسير إليه أخاه أبا القاسم هبة الله بن ناصر الدولة، واجتمعا على حرب الدمستق، وسار إليه فلقياه سلخ رمضان، وكان الدمستق في كثرة لكن لقياه في مضيق لا تجول فيه الخيل، والروم على غير أهبة، فانهزموا، وأخذ المسلمون الدمستق أسيراً، ولم يزل محبوساً إلى أن مرض سنة ثلاث وستين وثلاثمائة، فبالغ أبو تغلب في علاجه، وجمع الأطباء له، فلم ينفعه ذلك ومات.

.ذكر حريق الكرخ:

في هذه السنة، في شعبان، احترق الكرخ حريقاً عظيماً.
وسبب ذلك أن صاحب المعونة قتل عامياً، فثار به العامة والأتراك، فهرب ودخل دار بعض الأتراك، فأخرج من فيها، فركب الوزير أبو الفضل لأخذ الجناة، وأرسل حاجباً له يسمى صافياً في جمع لقتال العامة بالكرخ، وكان شديد العصبية للسنة، فألقى النار في عدة أماكن من الكرخ، فاحترق حريقاً عظيماً، وكان عدة من احترق فيه سبعة عشر ألف إنسان، وثلاثمائة دكان، وكثير من الدور، وثلاثة وثلاثين مسجداً، ومن الأموال ما لا يحصى.

.ذكر عزل أبي الفضل من وزارة عز الدولة ووزارة ابن بقية:

وفيها أيضاً عزل الوزير أبو الفضل العباس بن الحسين من وزارة عز الدولة بختيار في ذي الحجة، واستوزر محمد بن بقية، فعجب الناس لذلك لأنه كان وضيعاً في نفسه، من أهل أوانا، وكان أبوه أحد الزراعين، لكنه كان قريباً من بختيار، وكان يتولى له المطبخ، ويقدم إليه الطعام ومنديل الخوان على كتفه، إلى أن استوزر.
وحبس الوزير أبو الفضل، فمات عن قريب، فقيل إنه مات مسموماً، وكان في ولايته مضيعاً لجانب الله. فمن ذلك أنه أحرق الكرخ ببغداد، فهلك فيه من الناس والأموال ما لا يحصى؛ ومن ذلك أنه ظلم الرعية، وأخذ الأموال ليفرقها على الجند ليسلم، فما سلمه الله تعالى، ولا نفعه ذلك، وصدق رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حيث يقول: «من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه، وأسخط عليه الناس».
وكان ما فعله من ذلك أبلغ الطرق التي سلكها أعداؤه من الوقيعة فيه، والسعي به، وتمشى لهم ما أرادوا لما كان عليه من تفريطه في أمر دينه، وظلم رعيته، وعقب ذلك أن زوجته ماتت وهو محبوس وحاجبه وكاتبه، فخرجت داره، وعفي أثرها، نعوذ بالله من سوء الأقدار، ونسأله أن يختم بخير أعمالنا، فإن الدنيا إلى زوال ما هي.
وأما ابن بقية فإن استقامت أموره، ومشت الأحوال بين يديه بما أخذه من أموال أبي الفضل، وأموال أصحابه، فلما فني ذلك عاد إلى ظلم الرعية، فانتشرت الأمور على يده، وخربت النواحي، وظهر العيارون، وعملوا ما أرادوا، وزاد الاختلاف بين الأتراك وبين بختيار، فشرع ابن بقية في إصلاح الحال مع بختيار وسبكتكين، فاصطلحوا، وكانت هدنة على دخن وركب سبكتكين إلى بختيار ومعه الأتراك، فاجتمع به، ثم عاد الحال إلى ما كان عليه من الفساد.
وسبب ذلك أن ديلمياً اجتاز بدار سبكتكين وهو سكران، فرمى الروشن بزوبين في يده، فأثبته فيه، وأحس به سبكتكين، فصاح بغلمانه فأخذوه، وظن سبكتكين أنه قد وضع على قتله، فقرره فلم يعترف، وأنفذه إلى بختيار وعرفه الحال، فأمر به فقتل، فقوي ظن سبكتكين أنه كان وضعه عليه، وإنما قتله لئلا يفشي ذلك، وتحرك الديلم لقتله، وحملوا السلاح، ثم أرضاهم بختيار فرجعوا.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة، في ذي الحجة، أرسل عز الدولة بختيار الشريف أبا أحمد الموسوي، والد الرضي والمرتضى، في رسالة إلى أبي تغلب بن حمدان بالموصل، فمضى إليه، وعاد في المحرم سنة ثلاث وستين وثلاثمائة.
وفيها توفي أبو العباس محمد بن الحسن بن سعيد المخرمي الصوفي صاحب الشبلي بمكة. ثم دخلت:

.سنة ثلاث وستين وثلاثمائة:

.ذكر استيلاء بختيار على الموصل وما كان من ذلك:

في هذه السنة، في ربيع الآخر، سار بختيار إلى الموصل ليستولي عليها وعلى أعمالها وما بيد أبي تغلب بن حمدان وكان سبب ذلك ما ذكرناه من مسير حمدان بن ناصر الدولة بن حمدان وأخيه إبراهيم إلى بختيار، واستجارتهما به، وشكواهما إليه من أخيهما أبي تغلب، فوعدهما أن ينصرهما ويخلص أعمالهما وأموالهما منه، وينتقم لهما، واشتغل عن ذلك بما كان منه في البطيحة وغيرها، فلما فرغ من جميع أشغاله عاود حمدان وإبراهيم الحديث معه، وبذل له حمدان مالاً جزيلاً، وصغر عنده أمر أخيه أبي تغلب، وطلب أن يضمنه بلاده ليكون في طاعته، ويحمل إليه الأموال ويقيم له الخطبة.
ثم إن الوزير أبا الفضل حسن ذلك، وأشار به ظناً منه أن الأموال تكثر عليه فتمشي الأمور بين يديه، ثم إن إبراهيم بن ناصر الدولة هرب من عند بختيار، وعاد إلى أخيه أبي تغلب، فقوي عزم بختيار على قصد الموصل أيضاً، ثم عزل أبا الفضل الوزير واستوزر ابن بقية، فكاتبه أبو تغلب، فقصر في خطابه، فأغرى به بختيار، وحمله على قصده، فسار عن بغداد، ووصل إلى الموصل تاسع عشر ربيع الآخر ونزل بالدير الأعلى.
وكان أبو تغلب بن حمدان قد سار عن الموصل لما قرب منه بختيار، وقصد سنجار، وكسر العروب، وأخلى الموصل من كل ميرة، وكاتب الديوان، ثم سار من سنجار يطلب بغداد، ولم يعرض إلى أحد من سوادها بل كان هو وأصحابه يشترون الأشياء بأوفى الأثمان. فلما سمع بختيار بذلك أعاد وزيره ابن بقية، والحاجب سبكتكين إلى بغداد، فأما ابن بقية فدخل إلى بغداد، وأما سبكتكين فأقام بحربى، وكان أبو تغلب قد قارب بغداد، فثار العيارون بها، وأهل الشر بالجانب الغربي، ووقعت فتنة عظيمة بين السنة والشيعة، وحمل أهل سوق الطعام، وهم من السنة، امرأة على جمل وسموها عائشة، وسمى بعضهم نفسه طلحة، وبعضهم الزبير، وقاتلوا الفرقة الأخرى، وجعلوا يقولون: نقاتل أصحاب علي بن أبي طالب، وأمثال هذا من الشر.
وكان الجانب الشرقي آمناً، والجانب الغربي مفتوناً، فأخذ جماعة من رؤساء العيارين وقتلوا، فسكن الناس بعض السكون. وأما أبو تغلب فإنه لما بلغه دخول ابن بقية بغداد، ونزول سبكتكين الحاجب بحربى، عاد عن بغداد، ونزل بالقرب منه، وجرى بينهما مطاردة يسيرة، ثم اتفقا في السر على أن يظهرا الاختلاف إلى أن يتمكنا من القبض على الخليفة والوزير ووالدة بختيار وأهله، فإذا فعلوا ذلك انتقل سبكتكين إلى بغداد، وعاد أبو تغلب إلى الموصل، فيبلغ من بختيار ما أراد، ويملك دولته.
ثم إن سبكتكين خاف سوء الأحدوثة، فتوقف وسار الوزير ابن بقية إلى سبكتكين، فاجتمع به، وانفسخ ما كان بينهما، وتراسلوا في الصلح على أن أبا تغلب يضمن البلاد على ما كانت معه، وعلى أن يطلق لبختيار ثلاثة آلاف كر غلة عوضاً عن مؤونة سفره، وعلى أن يرد على أخيه حمدان أملاكه وإقطاعه، إلا ماردين.
ولما اصطلحوا أرسلوا إلى بختيار بذلك ليرحل عن الموصل، وعاد أبو تغلب إليها، ودخل سبكتكين بغداد، وأسلم بختيار. فلما سمع بختيار بقرب أبي تغلب منه خافه لأن عسكره كان قد عاد أكثره مع سبكتكين، وطلب الوزير ابن بقية من سبكتكين أن يسير نحو بختيار، فتثاقل، ثم فكر في العواقب، فسار على مضض، وكان أظهر للناس ما كان هم به.
وأما بختيار فإنه جمع أصحابه وهو بالدير الأعلى؛ ونزل أبو تغلب بالحصباء، تحت الموصل، وبينهما عرض البلد، وتعصب أهل الموصل لأبي تغلب، وأظهروا محبته لما نالهم من بختيار من المصادرات وأخذ الأموال، ودخل الناس بينهما في الصلح، فطلب أبو تغلب من بختيار أن يلقب لقباً سلطانياً، وأن يسلم إليه زوجته ابنة بختيار، وأن يحط عنه من ذلك القرار. فأجابه بختيار خوفاً منه، وتحالفا، وسار بختيار عن الموصل عائداً إلى بغداد، فأظهر أهل الموصل السرور برحيله، لأنه كان قد أساء معهم السيرة وظلمهم.
فلما وصل بختيار إلى الكحيل بلغه أن أبا تغلب قد قتل قوماً كانوا من أصحابه، وقد استأمنوا إلى بختيار، فعادوا إلى الموصل ليأخذوا ما لهم بها من أهل وما فقتلهم. فلما بلغه ذلك اشتد عليه، وأقام بمكانه، وأرسل إلى الوزير أبي طاهر بن بقية والحاجب سبكتكين يأمرهما بالإصعاد إليه، وكان قد أرسل إليهما يأمرهما بالتوقف، ويقول لهما إن الصلح قد استقر، فلما أرسل إليهما يطلبهما أصعدا إليه في العساكر، فعادوا جميعهم إلى الموصل، ونزلوا بالدير الأعلى أواخر جمادى الآخرة، وفارقها أبو تغلب إلى تل يعفر، وعزم عز الدولة على قصده وطلبه أين سلك، فأرسل أبو تغلب كاتبه وصاحبه أبا الحسن علي بن أبي عمرو إلى عز الدولة فاعتقله، واعتقل معه أبا الحسن ابن عرس، وأبا أحمد بن حوقل.
وما زالت المراسلات بينهما، وحلف أبو تغلب أنه لم يعلم بقتل أولئك، فعاد الصلح واستقر، وحمل إليه ما استقر من المال. فأرسل عز الدولة الشريف أبا أحمد الموسوي، والقاضي أبا بكر محمد بن عبد الرحمن، فحلفا أبا تغلب، وتجدد الصلح، وانحدر عز الدولة عن الموصل سابع عشر رجب، وعاد أبو تغلب إلى بلده.
ولما عاد بختيار عن الموصل جهز ابنته وسيرها إلى أبي تغلب، وبقيت معه إلى أن أخذت منه، ولم يعرف لها بعد ذلك خبر.